[ هذا المقال جزء من ”أصوات من أجل غزة" وهو ملف خاص تنشره جدلية على مدار شهر كامل. للإطلاع على بقية المقالات اضغط/ي هنا]
يجوز وصف الحالة السياسيّة والاقتصاديّة لقطاع غزّة على مدار السنوات الماضية بالقول إنّها تتراوح بين التأزّم، والتأزّم الشديد. أينما ولّيت وجهك في غزّة فثمّة إشكالات وعُقد. العنوان العريض الذي هو "حصار غزّة"، بعد سبع سنوات على تسلّم "حماس" السلطة، لم يعد كافيًا للإحاطة بكافة جوانب بؤس العيش الغزّي؛ وإن كان قرار العالم و"الدول الشقيقة" بمعاقبة أهل غزّة والمتاجرة بهم لا يزال ساري المفعول والفاعليّة؛ متمثلاً في الإدخال المحسوب للبضائع والمحروقات، والإفشال المتعمّد لكافة محاولات إيجاد حلّ جذري لانقطاع الكهرباء، والإغلاق شبه الدائم لمعبر رفح؛ منفذ غزّة الوحيد على العالم الخارجيّ.
لكنّ هذا الردح الطويل من العيش المقنن قد تجاوز بالفعل مرحلة استفزاز الصمود والإبداع، وبات لا يستفزّ شيئاً غير المزيد من المعاناة والضجر ومحاولات البحث المرتبكة عن بدائل تحت الأظافر. تحوّل الحصار، ومعه ما معه مما يترتب عليه، إلى شبح ينتاب، منذ مدّة طويلة، قطاع غزّة. وصار في كثير من المناسبات شأنًاً تسيء الحكومة إليه إذ تصيِّر الحديث عنه إلى بيانات رسميّة وفعاليات كرتونيّة. وتدفع به في معترك خلافها واختلافها مع سلطة رام الله والنظام المصريّ.
يرى أهل غزة اليوم حصارهم على أنّه "شيء ما" جاثم على صدر المدينة وصدرهم، ويرفضون بصمت كلّ المقاربات المعلّبة لهذا الشيء الذي ينغّص عليهم عيشهم. ويدركون أنّ من يعدّ ضربات العصيّ ليس كمن يتلقّاها. يدركون، بحسرة، أنّ العالم يتغيّر من حول مدينتهم. أمّا مدينتهم نفسها فهي مربوطة بالأرض، مثقلة ببطولتها، ولا تتغيّر. يفرض الوعي بهذا الشلل السياسي والاجتماعيّ نفسه على المزاج العام، وينتهي في كثير من المناسبات بمحاولات اشتباك رديئة مع الواقع، أو بتفريغ سريع للتوتّر عبر ارتفاع موسمي لحدّة الصدام مع "إسرائيل".
ظهرت واحدة من تجليات هذا الانسداد المنهجي في الأفق الغزّي مع تقرير فريق الأمم المتحدة القطريّ في الأراضي الفلسطينيّة المحتلة في أغسطس لعام 2012. التقرير الذي عُنون "غزة في 2020، هل ستكون مكانًا ملائمًا للعيش؟" ليس بريئاً. إذ يجيء في مقدّمته أن الغاية من ورائه هي "تسليط الضوء على القضايا والمتطلبات الإنسانيّة والاجتماعية والتنموية التي تحتاج إلى معالجة، بصرف النظر عن السياق السياسيّ". لكنّ التقرير يقدّم تصورّاً لما ستؤول إليه الأمور في القطاع كنتيجة لازمة لنفس السياق السياسيّ الذي يحاول التقرير صرف النظر عنه.
يوضّح التقرير أن ما يخبئه المستقبل لغزّة يتضمن ازدياداً كبيراً في عدد السكان ليصل إلى حوالى 2.1 مليون نسمة بعد ستّة أعوام. سيعني هذا أن الكثافة السكانيّة في الشريط الساحليّ الضيق ستصل إلى رقم قياسي هو 5835 شخصًا لكل كيلو متر مربّع. الطلب على المياه سيزيد بنسبة قدرها حوالى 60%، كذلك الأمر بالنسبة لقطاع التعليم (مطلوب أكثر من 400 مدرسة) والقطاع الصحّي الذي سيعاني نقصاً في الكادر الطبّي يمكن تقديره بحوالى 1000 طبيب و2000 ممرض.
اقتصادياً، لا تبدو الصورة أقلّ قتامة إذ بلغت نسبة البطالة في قطاع غزّة في العام قبل الفائت حوالى 29% وهي في ازدياد مضطرد. أمّا معدل البطالة بين النساء فيقترب من 50%، في حين يرتفع ليصل إلى حوالى الـ 58% لدى الشريحة الحرجة التي تتراوح أعمارها بين 20 و24 سنة. أمّا نسبة الأسر التي تعاني من انعدام الأمن الغذائي أو تلك المعرضة له فبلغت حوالى 60%.
ولكن، ماذا عن المسائل الأكثر دقّة؟ كيف يمكن، مثلاً، توصيف منهج حكومة "حماس" في الداخل الغزّي، وما هي طبيعة العلاقة بين ما يحدث في مصر وانعكاسات ذلك على غزّة، وعلى خشونة/نعومة اليد الحكوميّة التي تحاول القبض على كافة مفاصل العيش المجتمعي في القطاع؟ ماذا عن المقاومة والاكتظاظ المسلّح في غزّة بعد كل هذه التغيرات الاقليميّة؟
الوضع الداخلي
قبل عشرة أيام فقط من فوز مرشّح جماعة الإخوان المسلمين في الانتخابات الرئاسيّة المصريّة الأخيرة، كانت حكومة "حماس" في غزّة تستشعر قوّة موقعها الإقليمي، وتقف متلهفة على النافذة المصريّة. انتفت "الفلاتر" البراغماتيّة التي تقف، في العادة، حائلاً بين الفضاء العام وبين أدبيّات حركة المقاومة الإسلاميّة بعد سقوط طاغية الاتحادية وقبيل تسلّم الإخوان للسلطة في أكبر بلد عربي. وقتئذ، صرّح محمود الزهّار بأنّ "المرحلة القادمة ستشهد دورة حضارية جديدة"، وأنّ مقر المجلس التشريعي الفلسطيني سيكون "عاصمة للدولة الإسلاميّة الكبرى".
تعاظم هذا الارتياح بعد فوز محمّد مرسي والتسهيلات النسبيّة التي شهدها معبر رفح وانكفاء الجيش المصريّ عن تدميره المنهجيّ للأنفاق المنتشرة على طول الشريط الحدوديّ. شهد عام حكم الإخوان نمواً ملحوظاً في نشاطات التجارة وفي طبقة "الأغنياء الجدد" الذين استفادوا من الاقتصاد-تحت-الأرضي، الأمر الذي انعكس في الثراء الملحوظ لقطاع واسع من قيادات حركة حماس ورجال الأعمال. غضّت جهات المحاسبة الداخلية في "حماس" الطرف عن هذا الثراء وعن المستفيدين منه من قيادات الحركة وكوادرها قبل أن تعود لتضبط أمورهم، وحتى تعتقل بعضهم، بعد سقوط مرسي وانتهاء شهر العسل مع المخابرات المصريّة.
أمّا شعبياً، فارتدّ هذا الارتياح الخارجي والهدوء النسبيّ مع القاهرة سلباً على عامّة الناس في غزّة، لاسيّما الشريحة الأكبر التي لا تستفيد من تسهيلات السفر لخلوّ أجندتها من أية رحلات. ففي شهر فبراير من العام الفائت أطلقت حركة "حماس" في قطاع غزّة حملة "ترسيخ القيم والفضيلة" التي هدفت لمكافحة الزيّ "غير الملتزم" وقصّات الشعر الغربيّة. الحملة انطلقت بالتزامن مع قرار مجلس إدارة جامعة الأقصى فرض الزيّ الشرعي على الطالبات.
بعد شهر واحد من الحملة، أصدرت الحكومة قانوناً جديداً يقضي بالفصل التّام بين الجنسين في المدارس ومنشآت وزارة التربية والتعليم والمدارس الخاصّة بعد الصّف الثالث الابتدائيّ. في حينه، قال وليد مزهر المستشار القانوني لوزارة التعليم إنّ القانون يهدف للحفاظ "على ثقافة الشعب الفلسطيني". لم يكد الصخب الذي تلى إصدار القانون ينتهي من الشارع الغزّي حتى شغلت الغزيين تصريحات وزير الداخليّة فتحي حماد الذي قال في حفل تخريج فوج ضبّاط في مايو من العام الفائت إنّ "الأجهزة الأمنيّة ستراقب كلّ من يساهم في خفض مستوى الرجولة في غزّة".
لم يُكتب لهذا الانتشاء الحمساويّ أن يستمر. سقط محمّد مرسي في القاهرة وسقطت معه بنود عديدة على جدول أعمال حكومة حماس في غزّة. للوهلة الأولى، لم تصدّق "حماس" ما حدث. تجسّد فشلها في استقراء المشهد المصريّ عبر القيام بأعمال صبيانيّة دون أي اعتبار لتبعات تلك الأعمال على المجموع الإنسانيّ الواقع تحت سلطتها. حيث قامت كتائب القسّام، ذراع "حماس" المسلّح بأكثر من ثلاثة عروض عسكريّة رفع المشاركون المقنعون فيها شعارات "رابعة"، في حين كانت وجوه الغزيين مكشوفة على مستقبل غامض وصفحة جديدة من التشهير والتشويه المصري الرسميّ وشبه الرسميّ لغزّة وأهلها.
ولكن، ومع مرور الوقت، بدأت قاعدة التناسب العكسيّ بين ارتياح حكومة "حماس" على الصعيد الخارجي وبين الحدّة في نبرة خطابها وأفعالها الداخليّة تنطبق بامتياز. اتّسمت الأشهر التي تلت عزل مرسي على يد جيش السيسي بهدوء نسبيّ فيما يتعلق بنشاطات حماس لأسلمة المجتمع، وانصبّت الجهود في محاولة الحركة البحث عن أرض صلبة ومسكنات للجرح الذي أصاب يقينها، رغم أنّها ظلّت مصرّة على بعض خطوط الحمراء التي كان من بينها، على ما يبدو، منع محمّد عسّاف من الغناء.
محاولات حماس الخروج من عنق الزجاجة شملت تلطيفاً لخطابها المتعلّق بالمصالحة الوطنية، وانفتاحاً على "الآخر" تحت وطأة الأزمة المالية المتعاظمة التي تتعرض لها الحكومة لاسيّما بعد إيقاف إيران دعمها للحركة. حيث صرّح زياد الظاظا، نائب رئيس وزراء الحكومة، بأنّ هناك قبولاً مبدئياً لخصخصة توزيع الكهرباء وإدارة معابر قطاع غزّة مع "مصر" و"إسرائيل" عبر تسليمها إدارتها لرجال أعمال من القطاع الخاص في غزّة.
المقاومة؟
من الضروري، حيم نتحدث عن المقاومة الفلسطينيّة المسلّحة في غزّة أن نؤكّد أنّها، بكلّ أسف، "في غزّة". تنبع هذه الضرورة من حقيقة الفشل الفلسطيني العارم في الاتفاق على استراتيجيّة محددة، سواء كان الحديث منحصراً في ثنائيّة غزة/رام الله، أو مفتوحاً على نشاطات وفعاليات الشعب الفلسطينيّ في كلّ أماكن تواجده. يلقي هذا الفشل بظلاله على كلّ أفعال الاشتباك مع إسرائيل، ويعيق أي إنجاز حقيقي، بعيد المدى، لأيِّ من مسارات المقاومة الموجودة على الطاولة.
ففي حين تستمر غزّة التي يمكن تشبيهها بأنها ضاحية جنوبية لا بيروت لها في دورها كمخزن للنّاس والأسلحة، تبدو الضفّة الغربيّة نموذجاً ناجحاً لسياسات الهندسة الاجتماعية الغربيّة والسياسات النيوليبراليّة التي طبّقها بنجاعة رئيس وزراء رام الله السّابق سلام فياض. وفي حين يركّز قطاع كبير من النشطاء الفلسطينيين جهودهم على مسار مقاطعة إسرائيل وفرض العقوبات عليها ويختارون نموذج "الأبارتهايد" لمقاربة المسألة الفلسطينيّة، يجتمع الرئيس الفلسطيني بطلاب إسرائيليين في المقاطعة برام الله ويطالب في خطابه أثناء تشييع مانديلا في جنوب إفريقيا بعدم مقاطعة "إسرائيل".
وفي حين تنجح "حماس" في توسيع دائرة قدراتها الناريّة لتصل حدود تل أبيب، فإنّها لا تتورع في مرحلة لاحقة من نشر حرس للحدود في غزّة بغرض منع أيّ إطلاق للصواريخ. هذه الخطوة ما هي إلا تعبيرٌ جدّي عن العقلية البراغماتيّة الآخذة في كسب النقاط داخل الحركة، وعن حسابات الربح والخسارة التي يجريها القائمون على المقاومة في غزّة. هذه المقاومة الذي تأخذ يوماً بعد يوم، صفة دفاعيّة (بشكل استراتيجي؟) لا يلبّي، بحسابات حرب العصابات والكفاح المسلّح، طموحات الحالة الفلسطينيّة، وإن كان ذلك يوفّر فرصة لالتقاط الأنفاس على الصعيد الشعبيّ. ليس هذا تشكيكاً في إنجازات المقاومة ولا في كونها ورقة قوّة للشعب الفلسطيني، بل هو تساؤل مشروع له ما يدعمه على الأرض والجغرافيا.
ولكن، هل تستطيع غزّة احتمال الاشتباك الدّائم مع الاحتلال؟ هل من العدل أن نستثمر في هذا القطع الحاصل بين غزّة وباقي أماكن الوجود الفلسطيني بأن نحمِّلها ما لا طاقة لها به؟ يجب التمعّن في هذه الأسئلة لاسيّما وأن ثمة محاولات دائمة لتقديم غزة على أنّها "النموذج" المخلّص الذي سيزيل الهم والغمّة.
وفي العموم، وبإطلالة عريضة على المشهد، يبدو الفلسطينيون اليوم مغرقين في الاغتراب والتفتت، لاسيّما فلسطينيو القطاع الذين لم يعد بوسعهم ولا برغبتهم اختيار تطوّر بعينه للأحداث من حولهم. وما زال الحصار الذي صار عمره ثمانية أعوام شبحاً مقيماً يعيش معهم ويجوب بلا هدفٍ وبخطوات ضجرة مدينتهم المتعبة.